الاثنين، 7 فبراير 2011

أعظم ثورات الإنسانية

ظهر الخميس 3 فبراير/شباط 2011: مختلسا "القول" من زمن "الفعل" أجلس لكتابة هذه السطور، موزعا بين تأنيب الضمير كجندي فار من الميدان، وإلحاح بلا حدود لضرورة تسجيل هذه "الشهادة"، التي ستكون كتابتها بعد ساعات من الآن إما غير ممكنة، وإما من دون قيمة.

إن مصر -شعبها وجغرافيتها وتاريخها- تقف ولا سلاح لها إلا إرادة ثوارها، في مواجهة عصابة شرسة اغتصبت سلطتها ومقدراتها. عصابة لا تتسلح فقط بأحدث الأسلحة وبدعم لا حدود له من الغرب الاستعماري، لكنها تتسلح أيضا بخسة لا حدود لها، وانعدام ضمير لا سابقة له في التاريخ، لدرجة لا يكفي معها أن توصف بأنها سلطة احتلال، لأن سلطات الاحتلال تتحلى -أحيانا- بشيء من نعمة الإحساس، وتراعي فضيلة الشرف ولو في حدود المظهر.

"
تقف مصر ولا سلاح لها إلا إرادة ثوارها، في مواجهة عصابة شرسة اغتصبت سلطتها ومقدراتها, عصابة لا تتسلح فقط بأحدث الأسلحة وبدعم لا حدود له من الغرب الاستعماري، لكنها تتسلح أيضا بخسة لا حدود لها
"
الأمن -الذي طالما تغنى به أزلام "مبارك"- تأكد أن مهمة عناصره كانت تقتصر طيلة الوقت على حماية عصابة السلطة من غضب الشعب، وتمكين تلك العصابة من مواصلة سرقة واستنزاف مقدرات مصر، لدرجة أن أحد ضباط ما يسمى "أمن الدولة" يعيش على ما يصفه له أبوه -الطبيب النفساني- من علاجات للاكتئاب، لأنه -وكما قال لي ذات يوم- اكتشف أن مهمته هي حراسة اللصوص الكبار وتحقيق رغباتهم، التي لخصها بقوله: لم أدخل كلية الشرطة لأتخرج قوادا. لهذا فإن ضباط وجنود الشرطة، وبمجرد انطلاق شرارة الثورة، انطلقوا يسرقون -لحساب أنفسهم- تلك الكنوز التي طالما سرقوها لحساب عصابة اللصوص الكبار، أو الكبار اللصوص.

هذا ما رأيناه عيانا بيانا، كما رأينا شرطة حراسة العصابة ترتكب جريمة القتل الجماعي ضد العزل في ميدان التحرير بالقاهرة وفي شوارع الإسكندرية والسويس والشرقية والصعيد.. إلخ. بينما الفريق "أحمد شفيق" رئيس آخر إدارات سلطة "مبارك" -ومع كامل التقدير لاعتذاره الإنساني عن جرائم القتل- يتحدث عن تكليف "الرئيس" له بالتحقيق فيما سماه "الانهيار الأمني" وتلك كذبة أخرى فادحة، حيث "الانهيار الأمني" وكما هو معلوم بالضرورة جريمة عمدية ارتكبتها سلطة أثبتت أنها أسوأ بكثير من "نيرون" الذي اكتفي بإحراق "روما" بينما عمدت هي إلى إحراق مصر بأكملها.

تلك هي سلطة "مبارك" التي لا أعرف كيف تحملناها 30 سنة، ولا أملك أي دفاع يبرر جريمة "الصبر" عليها التي ارتكبتها وقتا طويلا، مهما قيل عن "هوامش" المقاومة التي كنت ألتجئ إليها مع غيري، ومهما كان حجم التضحيات التي قدمها آخرون أكثر مني، ذلك أننا لم نضح بأرواحنا، مثلما يفعل هؤلاء النبلاء الذين قادوا ثورة ليمنحونا فرصة الالتحاق بها، وهي تضحية كان ينبغي الإقدام عليها منذ اللحظة الأولى والظهور الأول لهذه العصابة، التي لا يختلف واحدها عن الآخر، حيث لا فرق بين شرطي سفاح يتخفى في ملابس مدنية ليقتل العزل ويصيبهم، وبين طبيب سفاح يرفض علاج الثوار المصابين "بناء على تعليمات الأمن".

ثم لا فرق بين أي منهما وبين إعلامي سفاح يداري الجريمة وراء تبريرات كاذبة إلى حد السفالة، أو سياسي مأجور مثل هذا الذي لم يساوره الخجل وهو يعطي لنفسه حق تقييم الموقف وتوجيه النصح للثوار، مع تأكيده أنه لم يذهب إلى ميدان التحرير، ولا هو حتى شاهد الأحداث على شاشة التلفاز، ليؤكد المأجور بأوضح عبارة أنه محض جاهل، بل محض دمية لا تملك إلا الامتثال لمالئ زنبركها.

لا فرق بين وزير الداخلية المخلوع "حبيب العادلي"، الذي كان يوصف بـ"حارس التوريث"، وخلفه "محمود وجدي" الذي جاء ليواصل الإجرام من حيث توقف سلفه، ما يعني -ويا للمهزلة- أن عصابة السلطة تواصل مخططاتها كلها، حتى توريث الحكم لـ"جمال مبارك"!

وفي هذا السياق فإن سفاحي الشرطة وأرباب السوابق الذين كون منهم "حبيب العادلي" تشكيلات عصابية هم أنفسهم الذين جاء "محمود وجدي" ليطلقهم على الثوار مع تصاريح وأوامر واضحة بالقتل، وهم كما نعلم لا يتحركون إلا بالأوامر.

مسؤولية "محمود وجدي" -باعتباره وزير الداخلية- لا شك فيها، مهما قيل عن تورط رئيس جهاز مباحث أمن الدولة "حسن عبد الرحمن" في التدبير للعدوان بنفسه، وذلك في الاجتماع الذي حضره مع جمال مبارك وصفوت الشريف وعدد من لصوص المال المتسترين بممارسة العمل السياسي والبرلماني. ذلك أن "حسن عبد الرحمن" حضر الاجتماع ممثلا لوزارة الداخلية، وعلى هذا فإن إدانته -المؤكدة- لا تعني براءة "محمود وجدي".

ثم إنهم جميعا عصابة من السفاحين كان لا بد من كشفها، وأمعنت الثورة في تعريتها لنراها قبحا كلها، مجردة من حبة فضيلة أو نقطة جمال. والأمر -والحق يقال- واضح منذ البداية، لكننا كنا نتغافل مدفوعين بخليط لا شك فيه من الجبن والعجز. ذلك التغافل الذي رأت فيه عصابة الحكم رضوخا يجعل من حقها أن تمتن علينا حتى بالنفس الذي نتنفسه، وأن ترمينا بكل الجرائم التي ترتكبها هي.

"
أوصي نظامنا الذي ستسفر عنه الثورة بتكريم الجزيرة لأنها، بمجرد ولمجرد انحيازها إلى الحرية، أصبحت أقوى منبر للتعبير عن إرادة شعب مصر، مقابل السقوط المدوي لإعلام نظام "مبارك" الذي أصر ألا يرحل إلا بعد أن يكشف للعالم كله "خلاياه النائمة"
"
أليس "حسني مبارك" الذي خرج نظامه يتهم "الجزيرة" ويتهمنا بها هو نفسه "حسني مبارك" الذي حرص طوال عهد تسلطه على أن يختص صحيفة واحدة من بين صحف العالم بحوار يجريه معها في كل المناسبات الكبرى؟ تلك الصحيفة الواحدة التي كان "مبارك" يهرع إليها كلما حزبه أمر هي جريدة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية! لم ير نظام "مبارك" في حوارات رئيسه المنتظمة ليديعوت أحرونوت عارا، وهي عار مؤكد، ثم لم يخجل وهو يتهمنا بالجزيرة ويتهم الجزيرة بنا، تلك "الجزيرة" التي أوصي نظامنا الذي ستسفر عنه الثورة بتكريمها لأنها، بمجرد ولمجرد انحيازها إلى الحرية، أصبحت أقوى منبر للتعبير عن إرادة شعب مصر، مقابل السقوط المدوي لإعلام نظام "مبارك" الذي أصر -بعناده- ألا يرحل إلا بعد أن يكشف للعالم كله "خلاياه النائمة"، هؤلاء الذين كنا -كلنا أو معظمنا- نحسبهم منا، حتى انكشفت وجوههم القبيحة: مجرد أحذية للنظام بلا رأي ولا رؤية، حتى وإن كانوا يتمتعون ببعض البريق بفضل المساحيق التي كانوا يرشونها لتخفف من وطأة الدمامة والقبح.

هكذا انكشف أمر ذلك الكاتب (الكبير) الذي كنا -كلنا أو معظمنا- نظنه منا، فإذا به يتحدث ومنذ الثلاثاء العظيم (25 يناير/كانون الثاني) عن حزنه العميق للفوضى التي أصابت البلاد! كانت مصر كلها منتشية بثورتها وهو "حزين"! وكان الشباب ينظف ميدان التحرير بعد يوم ناصع البراءة من الاحتجاج السلمي وهو يتحدث عن "فوضى" فجرها النظام فيما بعد.

انكشفت خلايا النظام النائمة إذن، ومنها تلك المذيعة التي خرجت تبكي -بناء على تعليمات السيد الوزير- بعد الخطاب الهزلي الذي ألقاه "مبارك" واعدا بالعدول عن خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو وعد لا يساوي شيئا: من ناحية لأنه -على الأقل صحيا وبحكم السن المتقدمة- لا يمكنه خوض انتخابات تبقيه في الرئاسة حتى عامه التسعين.

ومن ناحية أخرى لأنه كان -ومازال- يرتب لتوريث ابنه "جمال" داعما خوضه انتخابات شكلية محسومة سلفا. لكن المذيعة الباكية لم تر هذا أو أن الأوامر صدرت إليها ألا ترى، ولا هي سمعت لغة التهديد الواضحة التي أطلقها ديكتاتور يتوعد الشعب بالتنكيل، لكنها بكت فقط أسفا على أن الرئيس اضطر إلى التماس البقاء في السلطة، مغفلة أن هذا البقاء يعني مزيدا من القتل والتنكيل.

كلهم قد قبضوا

وأحطهم الذي يمسك قبضة المال

مدعيا أنها الماركسية أم العرافة

هكذا قال "مظفر النواب"، بينما قال "محمود درويش":

هل تغيرتَ؟

تغيرتُ ولم تذهب حياتي عبثا

مالَ إلى النيلِ وقال: النيل ينسى

قلتُ: لا ينسى كما كنا نظن.

وأتذكر أيضا ما قاله "فؤاد حداد" بالعامية المصرية:

اكتبْ الحرية وأقرا

وانصري ولادك يا طاهرة

اللي طالع في المظاهرة

واللي داخل الامتحان.

شعر كثير يمرق في الذاكرة كأنه هو الواقع الخشن، بعدما أصبح الشعر الحقيقي هو هذا الذي يكتبه ثوار أنقى من الثلج وأصفى من اللهب. ثوار رأيتهم بعيني يعالجون سفاحا أصيب أثناء مشاركته في محاولة قتلهم. ثوار أقر العالم كله بنبلهم، حتى في كندا -البعيدة- التي حدثني صديقي المهاجر إليها عن الاحترام الشديد الذي أصبح يلقاه المصريون -والعرب كلهم- من شعبها منذ بدأت الشاشات والصحف تتناقل أخبار وصور "أعظم ثورات الإنسانية" كما سماها صديق آخر، وهو عراقي يقيم في الإمارات، قائلا: أثبت المصريون فعلا أنهم شعب ينتمي إلى حضارة عريقة، وتجاوزت ثورتهم ما جسدته الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، كالثورة الفرنسية والثورة الروسية.

من تونس انطلقت الشرارة، وفي مصر تتأصل الثورة، وعبر الخريطة العربية من أقصاها إلى أقصاها تؤكد أمتنا أنها ليست مجرد ظاهرة صوتية، وتجيب مصر -بلهجتها الدارجة- على سؤال "نزار قباني" متى يعلنون وفاة العرب؟ قائلة: في المشمش! وهي الإجابة نفسها التي تسمعها الآن سلطة "مبارك" وهي تطالبنا بتصديق وعودها.

أما الغرب الاستعماري فقد أبى هو الآخر إلا أن يفضح حقيقة تبعية نظام مبارك له، مسقطا -وإلى الأبد- فرية أزلام السلطة باتهام المقاومة الشريفة، سواء من اختارها أو من انحاز إليها، بأنها تستند إليه. حيث أكد قادة الغرب أن وجود نظام مبارك ضروري لاستمرار قدرتهم على نهب ثروة بلادنا وضروري لحراسة الكيان الصهيوني.

"
لا وجه للحوار بين ماض نسعى للخلاص منه، ومستقبل يحاول أن يشق طريقه على أرضنا. لأن أي حوار الآن إنما سيكون بين قاتل يدلي بسكين وقتلى يدلون بالأسماء
"
أو أن هذا هو المعنى الواضح لتصريح "توني بلير" بأن بقاء نظام "مبارك" ضروري لاستمرار ما سماه "التعاون الاقتصادي" وكذلك لضمان "أمن تل أبيب"، وهو أيضا المبرر الوحيد للنقص المتعمد في تعليقات الغرب على المشهد المصري، ذلك النقص الذي يتيح له الاستمرار في دعم ديكتاتورية ترتكب أسوأ الجرائم ضد الإنسانية، وهو مطمئن إلى أن بإمكانه التراجع والتنصل وإكمال الجمل الناقصة بكلمات تبرئه.

موبقات كثيرة تسقط كلها مع نظام أصبح وكل من ارتبط به جزءا من ماض مؤلم وقبيح، أما المستقبل فيكتبه الآن شباب وهبهم الله أقصى ما يمكن من نقاء وطهارة ثورية، مع وعي رائق لا شائبة فيه، أليسوا هم من حددوا ومنذ اللحظة الأولى، هدفهم في هتاف واضح يقول "الشعب يريد إسقاط النظام"؟ أليسوا هم من طهروا البلاد من رجس التحرش الجنسي ومن الفتنة الطائفية، وكلاهما نعلم الآن -يقينا- أنه من صنع نظام مبارك؟

ثم أليسوا هم من أعادوا المعنى إلى هتافنا الثوري التاريخي "لا مفاوضات إلا بعد الجلاء" مؤكدين أنه لا حوار إلا بعد رحيل الديكتاتور، من ناحية لأنه لا وجه للحوار بين ماض نسعى للخلاص منه، ومستقبل يحاول أن يشق طريقه على أرضنا. ومن ناحية أخرى لأن أي حوار الآن إنما سيكون بين "قاتل يدلى بسكين وقتلى يدلون بالأسماء".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق