الجمعة، 26 فبراير 2010

معارك الحرب الباردة بين البابا شنودة وجبهة العلمانيين الأقباط


معارك الحرب الباردة بين البابا شنودة وجبهة العلمانيين الأقباط
محمد الباز
لكن ولأن الحرب الباردة بين البابا والعلمانيين طالت ولم تحسم لصالح الكنيسة، بل علي العكس بدأت كفة العلمانيين ترجح في ميادين كثيرة، منها حرص الجبهة نفسها علي تسريب أن جهة سيادية طلبت مشروعها بتعديل لائحة انتخاب البطرك قبل تقديمه إلي مجلس الشعب عن طريق بعض النواب، وهو ما يشير إلي أن البابا نفسه قد يفاجأ بأن مجلس الشعب يناقش تعديل اللائحة دون أن يدري عن ذلك شيئا.
كانت المواجهات بين رجال البابا وجبهة العلمانيين، مجرد مناوشات لفظية ومقالات في الصحف وردود عبر الحوارات التي كانت تحمل غمزا ولمزا في هؤلاء الخارجين عن الطاعة والذين يتطاولون علي البابا شنودة شخصيا.
لكن البابا قرر أن يدير المعركة علي طريقته هو شخصيا، منذ أسابيع وعندما كان ممدوح رمزي المحامي في زيارة للبابا بالمقر البابوي حاول أن يستأذنه في أن يحضر مؤتمر العلمانيين الذي كان محددا له موعدا في 11 نوفمبر (المؤتمر تم تأجيله إلي 21 نوفمبر لظروف مباراة مصر والجزائر التي تشغل الناس عن كل ما عداها)، فرد عليه البابا قائلا:أنت حر تحضر أو لا تحضر. وقبل أن يأخذ ممدوح رمزي قراره فاجأه البابا بأنه سيعقد مؤتمرا يضم كل العلمانيين لمناقشة جميع الأمور والملفات الشائكة بالكنيسة والإجابة عن جميع تساؤلاتهم.
خرج ممدوح رمزي عند البابا ليعلن عن عقد مؤتمر للعلمانيين الأقباط من كل المحافظات تحديدا لمناقشة تعديل لائحة انتخابات البابا، وهو التعديل الذي طالب به عدد من الناشطين الأقباط.
ترك البابا شنودة ممدوح رمزي يأخذ المبادرة في الإعلان عن هذا المؤتمر الذي بدا منه أن البابا يريد أن يجهض مؤتمر جبهة العلمانيين، فإذا كان هناك مؤتمران للعلمانيين الأول يقف علي رأسه كمال زاخر والذين معه، والثاني سيقف علي رأسه البابا شنودة شخصيا، فلمن سينحاز الأقباط؟ لقد أصاب هذا الخبر جبهة العلمانيين بالارتباك، فقد أدركوا منذ اللحظة الأولي أن البابا يريد هدم المعبد علي رءوسهم، وهم يدركون كم هو محارب ماهر ومراوغ وقادر علي أن يحسم الحرب لصالحه.
إعلان البابا لم يمنع العلمانيين من التجهيز لمؤتمرهم الرابع الذي سيناقش محورين أساسيين الأول: إشكالية اختزال الكنيسة في شخص ومبني، والثاني هو العلاقة بين الكنيسة والدير والمجتمع، وانتهت المجموعة من إعداد أوراقها وأبحاثها، بل إنها أرسلت نسخة من هذه الأوراق إلي الأنبا بطرس سكرتير البابا شنودة الجديد، بعد أن فقدوا الثقة تماما في طاقم السكرتارية القديم للبابا، فقد أرسلوا إليهم أوراق المؤتمرات السابقة ولم يقوموا بتوصيلها للبابا، ولذلك فليس هناك داع لتكرار هذه التجربة الفاشلة.
ثم حدث ما أكد أن البابا شنودة لم يكن جادا في رغبته لعقد مؤتمرا للعلمانيين تحت رعايته، في عظته الأسبوع قبل الماضي حين سأله أحد الحاضرين عما أعلنه عن عقد مؤتمر للعلمانيين في الكنيسة، فأجاب البابا نصا: فكرة عقد مؤتمر للعلمانيين مطروحة حيث من الممكن أن تنظم الكنيسة مؤتمرا تدعو فيه العلمانيين. هذا هو التراجع الأول عن الفكرة، فبعد أن كانت هناك تأكيدات علي عقده أصبح أنه من الممكن عقده.
الأهم من هذه الخطوة الأولي في التراجع كان تعريف البابا شنودة للعلمانيين، فهم من وجهة نظره أصحاب المراكز مثل أعضاء مجالس إدارات الكنائس والجمعيات القبطية الكبري ومسئولي الخدمات الاجتماعية وفرق الشمامسة وأمناء مدارس الأحد ومساعديهم، أي أن البابا شنودة وعلي فرض أنه يمكن أن يعقد هذا المؤتمر فإنه سيختار له العلمانيين طبقا للمواصفات التي حددها هو.
هذا التحديد الصارم من البابا لمن هم العلمانيون، دعا كمال زاخر لأن يتندر علي هؤلاء العلمانيين، حيث أطلق عليهم "علمانيي الاتحاد الاشتراكي"، فهؤلاء عندما يحضرون مؤتمرا يعقده البابا شنودة لمناقشة أمور الكنيسة، لن تجد منهم صوتا معارضا أو يقول شيئا مختلفا وإنما سيسمع البابا طوال المؤتمر كلمات محفوظة وهي "أيوه.. طيب.. حاضر.. نعم".
البابا حسم الأمر في عظته الأسبوعية، عندما نفي أن يكون هناك تفكير في تنظيم مؤتمر للعلمانيين قريبا في الكنيسة، وهو ما يشير إلي أن تصريح البابا بعقد المؤتمر لم يكن إلا محاولة للشوشرة علي ما يقوم به العلمانيون في مؤتمرهم القادم، خاصة أنهم يناقشون بجدية تعديل لائحة البابا، وهو الأمر الذي يرفضه البابا شنودة جملة وتفصيلا.
التصعيد ضد جبهة العلمانيين بدأ علي الإنترنت من خلال مجموعات مجهولة، وإن كان ليس من الصعب التخمين بأنها مجموعات مدعومة من الكنيسة، أو من رجال البابا المقربين، هذه المجموعات طالبت بتدخل رئاسي لمنع العلمانيين من مواصلة مسيرتهم في اتجاه تعديل لائحة اختيار البابا، ولم تكتف هذه المجموعات بأن تطالب الكنيسة بأن تأخذ منهم موقفا، وهي تستطيع بالطبع من خلال العقوبات التي ترفعها في وجه من يعارضها، لكن طالبت أيضا بضرورة تدخل رسمي من الدولة، وكأن هذه المجموعات تدعو إلي التعامل الأمني مع مجموعة العلمانيين، وهو تعامل ليس لطيفا بالمرة لو جري.
علي هامش هذا التصعيد قال لي كمال زاخر إن ما تفعله الكنيسة ضدهم الآن هو خطوة متوقعة جدا، فقد تعمدت الكنيسة أن تصمت وتتجاهل وتقزم دور العلمانيين، لكن مع إلحاح الجبهة وإصرارها علي طرح أفكارها، وجدت الكنيسة نفسها مضطرة للمواجهة والرد بل والهجوم، خاصة أن الكنيسة كانت قد سعت منذ البداية إلي استقطاب عدد من أفراد الجبهة وبالفعل خرج البعض دون أن تنهار الجبهة وهو ما يعني أن الكنيسة فشلت في إفشالنا.
لم يصرح كمال زاخر بالأسماء لكن الوقائع معروفة، فهناك ثلاثة من الذين أسسوا التيار العلماني خرجوا من الجبهة، وهم هاني لبيب وكمال غبريال ونبيل منير، كمال غبريال خرج من الجبهة بسبب قناعاته الشخصية ولم يكن لمحاولات استقطاب الكنيسة دور في خروجه، وهي المحاولات نفسها التي نجحت مع هاني لبيب ونبيل منير، وإن كانت أكثر وضوحا مع هاني لبيب الذي كان من أكثر المتحمسين للتيار العلماني والعاملين فيه، لكن يبدو أن الاتصالات والاتفاقات جعلت هاني وهو باحث جاد يقع بين طرفي ذهب المعز وسيفه، ولأنه يعرف ما يريده جيدا فيبدو أنه اختار الذهب وترك السيف لغيره.
لكن السؤال الأهم الذي طرحته علي كمال زاخر هو: لماذا لجأ البابا إلي التصعيد علي أكثر من مستوي رغم أن الأمور كانت هائدة خلال السنوات الماضية؟ قال كمال زاخر: هناك أكثر من سبب فقد أصدرت جبهة العلمانيين بيانا واضحا رفضت فيه توريط الكنيسة في الحوار السياسي الدائر عن الانتخابات الرئاسية، ورفضت كذلك إبداء البابا لرأيه السياسي خاصة فيما قاله عن جمال مبارك.
كان البابا شنودة قد أعلن عبر فضائية نجيب ساويرس السبب الأهم الذي يري كمال زاخر أن البابا تحرك من أجله هو سعي الجبهة المؤكد إلي تعديل لائحة انتخاب البابا، وتحديدا إلغاء القرعة الهيكلية، ومنح الحق لكل من تجاوز 21 عاما في التصويت لانتخاب البابا، والأهم من ذلك قصر الترشيح علي الرهبان وحرمان الأساقفة من الترشيح لأن ترشيحهم يخالف الكتاب المقدس، وهو رأي يخالف ما يذهب إليه البابا تماما، بل إنه أعلن بما يشبه التهديد أنه لن يقبل أن يتقدم أحد باقتراحات لتعديل لائحة انتخاب البابا لأن هناك من يريدون تعديلها حتي يأتوا بمرشح معين.
كمال زاخر قلل من أهمية المخاوف التي يبديها البعض من وصول مقترح الجبهة بتعديل اللائحة إلي بعض أعضاء مجلس الشعب بعد إجراء مناقشات طويلة ومتعمقة معهم حول الأمر الذي لا يخص الكنيسة فقط، ولكن يخص الوطن كله علي اعتبار أن الكنيسة مؤسسة من مؤسسات الدولة ولا تعمل في الفراغ، وحجته في ذلك أن التعديل سيأخذ سبيله التشريعي لا أكثر ولا أقل من ذلك، ولابد أن تكون هناك جلسات استماع للآراء المختلفة، ويمكن في النهاية أن يتم رفض التعديل، فلا شيء مؤكد حتي الآن، ولذلك لا داعي لكل هذه المخاوف التي تبديها الكنيسة.
لكن في اعتقادي أن الأخطر مما قاله كمال زاخر والذي أزعج الكنيسة هو ما يقترحه إسحاق حنا، وهو أحد المؤسسين للتيار العلماني، ومدير جمعية التنوير وهو أحد الأقباط الذين يهمهم استقرار الوطن والكنيسة، إسحاق خطا بالمواجهة بين الكنيسة والعلمانيين خطوة أبعد، فهو يقترح تشكيل مجلس أعلي للكنيسة، تكون مهمته إدارة أعمال الكنيسة تحت إشراف البابا شنودة، بحيث لا ينفرد البابا بالعمل، ولا يتحمل العبء وحده.
هذا اقتراح ظاهره الرحمة من عند إسحاق، لكن في باطنه العذاب لدي البابا شنودة والذين معه، فتشكيل مجلس بهذا الشكل يعني أن رجال البابا لا يعملون من الأساس وأن الإدارة الكنسية فاشلة ولابد من لجنة أو مجلس يضم عددا من الحكماء لرعاية أمور الكنيسة. إن هذا الاقتراح موجع ولا يبتعد كثيرا عما اقترحه هيكل منذ أسابيع من تشكيل لجنة أمناء دستورية تدير الحكم في مصر كفترة انتقالية.
قد يكون الاقتراح منطقيا عند إسحاق حنا، لكنه قاتل ومميت لدي الكنيسة، فهل وصل بها الخراب إلي هذا الحد الذي يقترح أحدهم أن يشكل مجلس وكأنه مجلس لإنقاذ الكنيسة، ولن يكون بعيدا أن تخرج حملات لتشويه الاقتراح بل وتشويه إسحاق حنا نفسه لأنه تجرأ وتعدي حدوده ودخل بنعليه إلي الوادي المقدس في الكنيسة.
معارك الحرب الباردة بين الكنيسة والعلمانيين بدأت بإشارة من البابا وأعتقد أنها لن تنتهي بمعاهدة سلام، بل ستنتهي بأن يخسر أحد الطرفين المعركة...وهي أمور لا تحمسها الأقدار فقط، بل تحسمها الاعيب السياسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق