الجمعة، 26 فبراير 2010

استدعاء البابا شنودة أمام محكمة شمال القاهرة


استدعاء البابا شنودة أمام محكمة شمال القاهرة
المسافة بين المقر البابوي بالكاتدرائية ومحكمة شمال القاهرة لا تتجاوز سوي عدة أمتار قليلة، ولا يفصل بينهما إلا ميدان العباسية، تلك المسافة أصبحت محوراً لجدل واسع في الأسبوع الماضي، وتحولت إلي حقل ألغام محاط بأسلاك مكهربة، وكأنها حدود فاصلة بين دولتين، لأن البابا شنودة الثالث أصبح مطالباً بعبور هذه المسافة، والانتقال من مقره في الكاتدرائية إلي محكمة شمال القاهرة، للوقوف أمام القضاء، وحلف اليمين الحاسمة، ووضع نهاية للشكوك التي أحاطت بعملية بيع وشراء عمارة في مصر الجديدة، ومحل في الصاغة بدائرة قسم الجمالية.
البائع هو الثري القبطي سليم مينا مصري، والمشتري البابا شنودة الثالث، أما المتنازعون معه فهم ورثة «سليم مينا»، الذين شككوا في عملية البيع برمتها أمام المحكمة، وتقدموا عن طريق محاميهم «عباس حجر»، لتوجيه اليمين لقداسة البابا، لأن لديهم ـ وفق مذكرة دفاعهم ـ قناعة دينية راسخة بأن البابا ممنوع من الشراء والبيع واستلام أو تسلم أية مبالغ مالية تنتج عن هذه العمليات، وذلك طبقاً لتعاليم وطقوس الديانة المسيحية، بالإضافة إلي تشككهم في توقيع البابا بنفسه علي عقود البيع، كما أن لديهم قناعة بعدم علم البابا بهذه التصرفات، ولذلك كان ضرورياً توجيه اليمين له.
أما القضية، فهي لا تزيد علي كونها قضية نزاع مدني عادي جرت فصوله في ساحات القضاء، في القضية رقم 5680 لسنة 2004، مدني كلي شمال القاهرة، وتداولت حتي الأسبوع الماضي، الذي انفجرت فيه القنبلة ـ الطلب بحلف اليمين، وتم تأجيلها للبت إلي جلسة 31/5/2006.
تعود بداية النزاع إلي 20/11/2001، وتشير تفاصيله إلي أن البابا شنودة الثالث اشتري بذات التاريخ من سليم مينا مصري، عمارة بـ800 ألف جنيه، ومحلاً في شارع الصاغة بـ20 ألف جنيه. إلي هنا الأمر يبدو عادياً، ولكن انفجرت المفاجآت عندما باع البابا محل الصاغة إلي أشرف فؤاد بطرس بـ2 مليون جنيه، وذلك بعد مضي 18 شهراً فقط من تاريخ الشراء، أي أن البيع تم بزيادة مائة ضعف عن ثمن الشراء..أراد المشتري أشرف فؤاد، أن يوثق عقد الشراء عن طريق إقامة دعوي صحة ونفاذ للبيع في محكمة شمال القاهرة، مطالباً في دعواه كلاً من البابا شنودة الذي باع له، وورثة سليم مينا مصري، الذي اشتري منه البابا، التصديق علي البيع.
اكتشف الورثة أن التعاقد علي البيع بين البابا ومورثهم مؤرخ بتاريخ 20/11/2001، وهو نفس التاريخ الذي دخل فيه مورثهم مستشفي السلام بالمهندسين، ولم تكن معه دلائل تشير علي وجود مبالغ مالية متحصلة عن أية بيوع، وهو ما ساعد علي تصاعد الشكوك المتزايدة التي أحاطت بعملية البيع، لأن حالته الصحية التي نقل بسببها إلي المستشفي ـ كما جاء بالتقارير ـ مسيئة جداً، حيث أجريت له عدة عمليات جراحية، واستئصال لأعضاء بشرية منه، وتمت وفاته بعد أسبوعين، وهو ما دفعهم إلي التشكيك في العملية من الأساس، بالرغم من أن تلك القضية عادية، إلا أن ما احتوته من تفاصيل، فجرت العديد من المفاجآت بداية من قصة التهرب من الضرائب، فقد أكد شهود البابا أمام المحكمة في جلسة تحقيق، أن البابا دفع أكثر من مبلغ الـ20 ألف جنيه لسليم مينا مصري، أثناء البيع، وأن تدوين مبلغ الـ20 ألف، جاء بسبب الضرائب، وهذا التهرب يعني أن البائع تهرب من دفع 5.2% من قيمة المبلغ فيما يعرف بالتصرفات العقارية، وتهرب المشتري «البابا شنودة» من دفع 3% رسوم تسجيل.
لم يكن التهرب من دفع الرسوم السيادية المستحقة لصالح الخزانة العامة للدولة، هو كل المفاجآت، ولكن أكثرها إثارة للجدل ما جري في جلسة 8/2/2006، وهو توجيه اليمين الحاسمة للبابا أمام المحكمة.
استند دفاع ورثة سليم مينا إلي نص المادة 40 من الدستور، التي تنص علي أن «المواطنون لدي القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل، أو اللعة أو الدين أو العقيدة، ومن هذا المنطق، فإن قداسة الأنبا شنودة الثالث، وطبقاً لما جاء في الدعوي، قد أجري تصرفات مادية لها آثار قانونية بقيامه بتحرير عقد بيع، والتوقيع عليه بشخصه، وشرائه للمحل موضوع القضية بمبلغ 20 ألف جنيه، كما ذكر في العقد، ثم قام الأنبا شنودة بالتصرف في المحل ذاته عن طريق البيع أيضا للغير وهو أشرف فؤاد بطرس بمليوني جنيه أي أنه تربح من جراء عمليات البيع والشراء بمبالغ طائلة، كل هذه التصرفات والأعمال يحكمها قانون، ولا يمكن إعفاء من قام بها تحت أي ادعاء، وأشارت دعوي دفاع الورثة في المذكرة التي أعدها محاميهم عباس حجر أن قانون الإثبات نص علي أنه «يجوز لكل من الخصمين أن يوجه اليمين الحاسمة إلي الخصم الآخر، علي أنه يجوز للقاضي أن يمنع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفاً في توجيهما».
لكن في المقابل هناك موانع عقائدية تمنع البابا شنودة من عبور ميدان العباسية، والانتقال إلي المحكمة، هذه الموانع فجرها دفاع البابا أمام المحكمة عندما أشار إلي أن اليمين الحاسمة لقداسة البابا، تتعارض مع الأوضاع الدينية التي تحرم حلف اليمين، فقد جاء بالكتاب المقدس علي لسان السيد المسيح «سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسام، أما أنا فأقول لكم، لا تحلفوا البتة لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك، ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء بل ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا، وما زاد علي ذلك فهو من الشرير» «انجيل متي إصحاح 5».. فهل هناك مانع للبابا؟ من سماع شهادته بدون يمين، وذلك للاستدلال. الأزمة التي أثارتها تلك القضية، ربما تفتح ذلك الملف الشائك لأول مرة، فإن ذهب البابا فستكون سابقة أولي في التاريخ، لأن القانون لا يميز بين البابا كرتبة دينية ومنزلة روحية وبين الآخرين، أما من الناحية العقائدية، فالبابا ليس مجرد راهب عادي ولكنه أسقف بمعني الراعي، وهي رتبة كهنوتية، لها مكانتها الروحية عند الأقباط، وليس في مقدرته تجاوز ما جاء في الإنجيل، ولكن في نفس الوقت، هناك قانون وقواعد دستورية لا تفرق بين المواطنين، وخاصة إذا ما علمنا، أن البابا شنودة نفسه، إن صدق ما جاء في التعاقد، قام بالشراء والبيع، وهذه تصرفات مدينة، فهل تجاوز القاعدة الفقهية المسيحية في ذلك؟.. ولكن يبقي السؤال الأهم: هل سيعبر البابا ميدان العباسية، وينتقل من مقره إلي المحكمة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق